مئة عام من المقاومة

تزامنت المقاومة الفلسطينية مع بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين في نهايات القرن التاسع عشر، وتصاعدت المقاومة مع تزايد الهجرة، ثم تحولت إلى عمل سياسي وعسكري وثورات ومظاهرات مع فرض الانتداب البريطاني، وتواصلت المقاومة الشاملة بعد قيام دولة إسرائيل، ولم تتوقف بعد.  

بداية المقاومة
تعود بداية المقاومة الفلسطينية للوجود الصهيوني إلى أكثر من مائة عام، ففي عام 1891 قدم عدد كبير من وجهاء القدس مذكرة احتجاج إلى الصدر الأعظم في الأستانة يطالبونه بالتدخل لمنع الهجرة اليهودية وتحريم امتلاك اليهود للأراضي الفلسطينية. وفي العام التالي لاحظ أهالي قرية الخضيرة وملبس "بتاح تكفا" تنامي عدد المستوطنات اليهودية في أراضيهم، فقاموا بهجوم مسلح عليها أسفر عن سقوط قتلى من الطرفين. وفي الفترة نفسها ظهرت كتابات يهودية في الصحف الأوروبية تحذر من ثورة عربية وشيكة بسبب عمليات الهجرة اليهودية التي بدأ العرب يلتفتون إليها.

مؤتمر بال
وكان انعقاد مؤتمر بال عام 1897 مقدمة لتأجيج المشاعر العربية، إذ وضع هذا المؤتمر الصهيوني القضية الفلسطينية في بؤرة القلق العربي.

أول عمل عسكري


بدأت المقاومة الفلسطينية المسلحة بعد عام واحد فقط من المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا


لم تقتصر الأطماع الصهوينية على فلسطين وحدها بل امتدت إلى شرق الأردن كذلك، ويعتبر الهجوم الذي شنه الأهالي هناك عام 1898 على مستوطنة أقيمت في منطقة جرش أول عمل عسكري ضد الوجود الصهيوني. وشهد عام 1900 حملة ضخمة لجمع التوقيعات على عرائض تمنع بيع الأراضي للمهاجرين اليهود. ونشطت وسائل الإعلام العربية في هذه التوعية، فكانت لكتابات الشيخ رشيد رضا ( 1865-1935) على صفحات جريدة المنار، ونجيب نصار في الكرمل عام 1908 أثر كبير في زيادة وعي الجماهير العربية بما يدور في فلسطين.

مظاهر المقاومة
وتنوعت مظاهر المقاومة في تلك الفترة فأنشئت الجمعيات والأحزاب التي وضعت مقاومة الهجرة اليهودية على رأس برامجها، واختص بعض هذه الجمعيات في المقاومة الاقتصادية عن طريق تشجيع الاقتصاد الفلسطيني وشراء الأراضي المهددة بالانتقال إلى اليهود، في حين اهتم بعضها الآخر بالجوانب السياسية وعقد المؤتمرات الجماهيرية وتنظيم المظاهرات والقيام بهجمات على المستوطنات الصهيونية. من هذه الجمعيات: الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية الإخاء والعفاف، وشركة الاقتصاد الفلسطيني العربي، وشركة التجارة الوطنية الاقتصادية.. إلخ.

ومن بين الأحزاب التي تأسست متأثرة بالمناخ العام المعادي للتحركات الصهيونية في فلسطين، الحزب الوطني العثماني (1911) الذي أنشأ لجاناً تشرف على منع بيع الأراضي لليهود.

مؤتمرات ومظاهرات


سبعة مؤتمرات وأربع ثورات شهدتها الأراضي الفلسطينية طوال العشرينيات


وبعد صدور وعد بلفور عام 1917 والذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بالعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، اتخذت المقاومة أشكالاً أكثر شمولاً وأكثر عنفاً، وكثرت المؤتمرات الشعبية خاصة بعد عقد المؤتمر الإسلامي الأول عام 1919، إذ انعقد في الفترة 1919 - 1929 أكثر من سبعة مؤتمرات تؤكد جميعها على ضرورة الوحدة العربية لدرء المخاطر الصهيونية والسعي لنيل الاستقلال الوطني.

واكتسبت المظاهرات التي اندلعت طابع العنف وتخللتها صدامات مع الجنود البريطانيين الذين اعتبرهم الشعب الفلسطيني مسؤولين عن الوجود الصهيوني والهجرة اليهودية التي لا تتوقف، وكانت أهم تلك المظاهرات في موسم النبي موسى من أعوام: 1920 و1921 و1923 و1924.

ثورة 1920
وقد اندلعت احتجاجاً على وعد بلفور، وبدأت أحداثها في القدس ثم امتدت إلى مختلف المدن الفلسطينية. وعلى الرغم من منع السلطات البريطانية للمظاهرات فإن الفلسطينيين اعتادوا أن يستغلوا المناسبات الدينية وخاصة موسم النبي موسى، ففي شهر أبريل/ نيسان 1920 احتفل الفلسطينيون كعادتهم بهذه المناسبة وألقى عدد من وجهاء الحركة الوطنية خطابات حماسية كان من أهمها خطابات الحاج أمين الحسيني وموسى كاظم الحسيني وعارف العارف، وبعدها سارت جموع حاشدة في مظاهرات صاخبة طافت شوارع القدس وهي رافعة صورة فيصل بن الحسين بصفته ملكاً لسوريا وفلسطين. وحينما وصلت المظاهرة باب يافا في القدس وقع انفجار قوي تبعه قذف الحوانيت اليهودية بالحجارة، واشتبك المتظاهرون مع اليهود ثم مع الإنجليز الذين هرعوا لحمايتهم. وكانت تلك الأحداث بداية الهبة الشعبية التي استمرت أسبوعاً لم تستطع السلطات البريطانية إخمادها رغم إعلان الأحكام العرفية، وبلغت حصيلة القتلى والجرحى من الجانب الفلسطيني تسعة قتلى و251 جريحاً. وترجع أهمية ثورة 1920 إلى كونها بداية الانتفاضات الشعبية الكبرى على الوجود البريطاني والتغلغل الصهيوني منذ العشرينات من القرن العشرين وحتى الآن.

ثورة 1929
وشهد عام 1929 مظاهرة عنيفة اشتبك فيها المسلمون مع الصهاينة الذين أرادوا اقتحام المسجد الأقصى وإقامة احتفالات دينية عند حائط البراق، وأسفرت تلك المظاهرات عن إنشاء جمعية حراسة المسجد الأقصى التي انتشرت فروعها في معظم المدن الفلسطينية، واشترك المسيحيون مع قادة الحركة الوطنية للدفاع عن الأراضي الفلسطينية، فانتخبت في تلك الفترة اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي المسيحي التي قامت بعدة زيارات خارجية للدول العربية وبعض العواصم الأوروبية.

المقاومة (1929 - 1939)
المؤتمر الإسلامي الأول 1931
من أهم أحداث تلك الفترة انعقاد المؤتمر الإسلامي الأول عام 1931 وثورة 1936، حيث دعا الحاج أمين الحسيني إلى مؤتمر إسلامي حضره كبار علماء المسلمين في تلك الفترة من أمثال الشيخ رشيد رضا وعبد العزيز الثعالبي وضياء الدين الطباطبائي والشاعر الفيلسوف محمد إقبال. وأصدر المؤتمر عدة قرارات منها: تأليف دائرة معارف إسلامية، وإنشاء جامعة أطلق عليها جامعة المسجد الأقصى، وتكوين شركة لإنقاذ الأراضي الفلسطينية. وكانت قرارت هذا المؤتمر دون طموحات الجماهير التي خرجت في مظاهرات عفوية كبيرة عامي 1931 و1933 عمت معظم المدن الفلسطينية وواجهتها السلطات البريطانية بالقمع الشديد، وتطورت تلك المظاهرات عام 1935 إلى إضراب شامل دام أكثر من ستة أشهر، حيث أشرفت عليه لجان قومية لتضمن تطبيقه في كل المدن الفلسطينية
.

عز الدين القسَّام
في هذه الأثناء تكونت خلايا مسلحة كانت تطلق على نفسها خلايا "الكف الأخضر"، ولم تظهر عملياتها ضد الاحتلال البريطاني والمهاجرين اليهود إلا في عام 1935، حينما انتقل قائد تلك الخلايا الشيخ عز الدين القسام إلى الريف وبالتحديد إلى منطقة جنين ليبدأ عملياته المسلحة من هناك، ولم يمهله القدر ليواصل جهاده، فقد اكتشفت القوات البريطانية مكان اختبائه فحاصرته وطالبته بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات حتى سقط هو وأتباعه المحاصرون شهداء. وزاد من لهيب المشاعر الفلسطينية رفض المندوب السامي البريطاني مطالب قادة الحركة الوطنية بوقف الهجرة اليهودية وتشكيل حكومة وطنية ومنع انتقال الأراضي لليهود، فاشتعل بذلك فتيل ثورة 1936.

الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 - 1939)
عم الإضراب الشامل الأراضي الفلسطينية، ونشطت خلايا عز الدين القسام ومعها الجماهير الغاضبة في إثارة الرعب في المعسكرات البريطانية والتجمعات اليهودية. ومما زاد من توتر الأجواء اعتراض الصهيونيين على إقامة مؤسسات للحكم الذاتي الفلسطيني. وفي فبراير/ شباط 1936 تعاقدت الحكومة البريطانية مع أحد المقاولين اليهود لبناء ثلاث مدارس في يافا، فقام بعض العمال العرب بتطويق موقع إحدى هذه المدارس ومنع اليهود من الوصول إليه، فكان ذلك البداية التي فجرت الوضع. ثم توالت سلسلة من الحوادث والاصطدامات في مختلف المدن الفلسطينية، أعلنت الحكومة على إثرها منع التجول في يافا وتل أبيب، ثم عممته بعد ذلك في البلاد كلها.

وفي العشرين من أبريل/ نيسان شكلت في نابلس اللجنة القومية العربية التي قررت إعلان الإضراب العام في البلاد كلها، وفي اليوم التالي شكلت لجنة مماثلة في كل من يافا وحيفا وغزة، وأعلنت جميعها الاستمرار في الإضراب حتى تستجيب الحكومة البريطانية لمطالبها المتمثلة في منع الهجرة اليهودية وإقامة حكومة وطنية ووقف عمليات بيع الأراضي لليهود، وسارعت الأحزاب الفلسطينية على اختلاف توجهاتها السياسية إلى الإعلان عن تأييدها للإضراب. وفي 25 أبريل/ نيسان عقد اجتماع ضم جميع الأحزاب العربية وشكلت لجنة عرفت فيما بعد باللجنة العربية العليا. وشددت السلطات العسكرية من قمعها للثوار فهدمت منازل المشتبه فيهم، وفرضت غرامات جماعية على القرى التي عرفت بأنها تقدم مساعدات للثوار. وشارك في هذه الثورة ضباط وثوار عرب كان من أشهرهم الضابط السوري فوزي القاوقجي الذي دخل فلسطين بصحبة مجموعة مسلحة.

وبينما كان الثوار منشغلين بتأجيج ثورتهم والشعب الفلسطيني يؤيدهم، كان القادة السياسيون متلهفين للتوصل إلى تسوية سلمية مع الحكومة البريطانية.

وقف الانتفاضة
في أواخر سبتمبر/ أيلول توجه وفد من اللجنة العربية العليا للاجتماع بالملك عبد العزيز آل سعود والملك غازي والأمير عبد الله، ونتيجة لهذه الاجتماعات والاتصالات بالحكومة البريطانية وجه هؤلاء الثلاثة نداء مشتركاً دعوا فيه إلى حل الإضراب ووقف الثورة و"الاعتماد على النيات الطيبة لصديقتنا بريطانيا العظمى التي أعلنت أنها ستحقق العدالة"!!

وفي اليوم التالي نشرت اللجنة العليا نداءات الملوك والحكام العرب، معلنة أنها حصلت على موافقة اللجان القومية، ودعت الأمة العربية والشعب الفلسطيني للعودة إلى الهدوء ووضع حد للإضراب.

وسرعان ما توقف الإضراب والثورة، وسمح للعصابات بأن تحل نفسها بنفسها، كما سمح للثوار القادمين من الدول العربية باجتياز الحدود تدريجياً والعودة إلى أقطارهم. وهكذا توقفت ثورة 1936 وانتظرت الشعوب العربية ومعهم الفلسطينيون أن تفي بريطانيا بوعودها، وما تزال تلك الشعوب تنتظر حتى الآن.

ثورة الريف (1937-1939)
كانت ثورة 1937 بداية لسلسلة من الثورات العارمة عمت ريف فلسطين، حيث بدأت أحداث تلك الثورات بعد أن أصدرت لجنة بيل الملكية تقريراً متحيزاً حول أسباب العنف الذي حدث إبان ثورة 1936، فجاءت معظم توصيات اللجنة لصالح الحركة الصهيونية، وكان من بين توصياتها تقسيم فلسطين. وما إن عرف الفلسطينيون بذلك حتى قاموا بثورتهم مستفيدين من خبراتهم في ثورة 1936، فقسموا المناطق بين القادة والتشكيلات وأقاموا جهازاً إدارياً وقضائياً لجباية الضرائب وتنظيم التطوع والتموين وفصل الخلافات التي تحدث بين المواطنين. ويمكن القول إن ثورة 1936 ثورة مدن دعمها الريف، في حين أن ثورة 1937 ثورة ريفية آزرها أهل المدن، والسبب في ذلك غياب معظم القيادات الوطينة خلف قضبان سجون الاحتلال البريطاني، واضطرار الحاج أمين الحسيني إلى مغادرة البلاد.


بعد أن قدمت ثورة 1936 أربعة آلاف قتيل و12 ألف جريح عـادت قضية فلسطين إلى دوامة المفاوضات من جـديـد

واتبعت السلطات البريطانية لإخماد هذه الثورة مختلف أساليب القمع التي مارستها من قبل إبان ثورة 1936، فقصفت مناطق الثوار بالطائرات وهدمت بالجرارات منازل المشتبه في تأييدهم للثوار، مما أسفر عن سقوط أربعة آلاف قتيل وقرابة 12 ألف جريح. ولم تكتف السلطات البريطانية بذلك بل عملت على فرض ضرائب باهظة كنوع من أنواع العقاب الجماعي. وحينما فشلت في إخماد الثورة استدعت قرابة 50 ألف جندي من الاحتياطي العام للجيش البريطاني، ولم تغفل سلاح الفرقة والوقيعة بين الأهالي ونشط في ذلك بعض العملاء التابعين لها، واستطاع الجيش البريطاني في مطلع عام 1938 إلحاق خسائر كبيرة في صفوف الثوار وإخراجهم من المدن الرئيسية ومحاصرتهم في الريف، لكنه لم يستطع إخماد الثورة تماماً.

ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية بدأت بريطانيا تشعر أن عليها أن تخفف من قمعها الوحشي لتلك الثورة، فأصدرت بياناً يرضي العرب قليلاً ولكنه لا يحقق مطالب الثوار، فأوعزت إلى الحكام العرب بفكرة الطاولة المستديرة في لندن، تمهيداً لإصدار الكتاب الأبيض عام 1939، وانتهت بعد ذلك العمليات المسلحة ودخلت حلقة جديدة من دوامة المفاوضات والبحث بعد ذلك في أروقة الأمم المتحدة التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولا تزال القضية تراوح مكانها داخل دهاليز المنظمة الدولية حتى يومنا هذا.

المقاومة الفلسطينية (1940-1947)
لم تشهد الأراضي الفلسطينية في الفترة المذكورة أحداثاً كبيرة بنفس سخونة الأحداث في الفترة السابقة، والسبب في ذلك يرجع إلى القبضة الحديدية التي تعاملت بها سلطات الاحتلال البريطاني مع الحركة الوطنية وغياب أغلب قادتها إما بسبب السجن أو اضطرارهم للخروج إلى سوريا ولبنان بعد أن ضاقت بهم سبل المقاومة من الداخل. وبعد الحرب العالمية الثانية (1945) عاش العرب والشعب الفلسطيني آمالاً جديدة، رسم فيها خيالهم قصوراً للحرية والاستقلال نظير وقوفهم مع بريطانيا، لكن أحداث الأيام التي تلت الحرب أحالت تلك الأماني إلى أوهام، فبدأت بوادر العمل المسلح تظهر في الأراضي الفلسطينية من جديد.

وفي 29/1/1945 أعلنت بريطانيا أنها ستبقي باب الهجرة اليهودية مفتوحاً، مخالفة بذلك وعودها التي قطعتها على نفسها من قبل بتنظيم تلك الهجرة، ولكي تخفف من وقع الصدمة على العرب أعلنت عن تشكيل لجنة بريطانية أميركية، ووافقت اللجنة العربية العليا على التعاون مع اللجنة الأنجلو أمريكية في 20/4/1945، وجاء بيان تلك اللجنة لينص على السماح لمائة ألف مهاجر يهودي جديد بالدخول إلى فلسطين، وحرية انتقال الأراضي لليهود، وبقاء الانتداب البريطاني على فلسطين.

وأدت هذه التوصيات إلى اندلاع المظاهرات في فلسطين وبعض الدول العربية، واستدعى الأمر عقد اجتماع قمة عربي في أنشاص بمصر يومي 28 و29/5/1946 خلص الملوك والرؤساء العرب فيه إلى بيان إنشائي لا تدعمه آليات تنفيذية، وأكدوا على بدهيات لم تكن بحاجة إلى مثل هذا الاجتماع للتأكيد عليها. من ذلك على سبيل المثال "اعتبار القضية الفلسطينية قضية العرب جميعاً" و"فلسطين عربية ينبغي مساعدتها للحفاظ على عروبتها"، ومناشدة بريطانيا والولايات المتحدة بأن يكونا أكثر نزاهة في التعامل مع القضية الفلسطينية.

تأسيس الهيئة العربية العليا
تشكلت الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني عام 1946 وأنشأت مكتباً لها في القاهرة ومكاتب أخرى في فلسطين، ووضعت نظما ولوائح داخلية تضبط عملها. وقبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين بـ 33 يوماً، قررت الدول العربية إدخال الجيوش النظامية إلى فلسطين، لكن على المستوى الفلسطيني الداخلي لم تكن هناك بنية تحتية عسكرية مؤهلة لهذه الحرب، فأخذت اللجان القومية تتشكل على عجل وتهتم بتجميع السلاح الذي كانت فلسطين تعاني ندرة شديدة منه.

حرب 1948
نشبت الحرب في 15/5/1948 بسبب قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة في 29/12/1947، حيث دعت جامعة الدول العربية إلى اجتماع في القاهرة تم الإعلان فيه أن الحكومات العربية ترفض هذا القرار وأنها ستتخذ تدابير كفيلة بإحباطه.

كانت الحركة الصهيونية قد تمكنت من بناء قوة عسكرية كبيرة ضمن عدة منظمات عسكرية أهمها الهاغاناه، كما تمكنت بدعم من سلطات الانتداب البريطاني من  إنشاء صناعة عسكرية. أما على الجانب الآخر فكان الطرف العربي مكونا من الثوار الفلسطينيين، وجيش الجهاد المقدس، وجيش الإنقاذ، وقوات المتطوعين المصريين. كما تقرر إنشاء جيوش عربية على حدود فلسطين دون دخولها إلى الأراضي الفلسطينية والاكتفاء فقط بدعم الفلسطينيين والمتطوعين.

في تلك الأثناء أعلنت بريطانيا عن رغبتها في الانسحاب من فلسطين بتاريخ أقصاه 15/5/1948، وحدث خلال تلك الفترة مجموعة من المذابح قامت بها جماعات صهيونية مسلحة، فاتخذت الدول العربية قراراً بدخول جيوشها إلى فلسطين، وبدأت حشد القوات على الجبهات الرئيسية في مصر والأردن والعراق وسوريا ولبنان. وكانت السمة البارزة لتلك الحشود هي عدم التنسيق فيما بينها، فقد كان لكل جيش هدف مستقل، كما كانت بداية العمليات أيضا تفتقد إلى التنسيق، مما حرم الجيوش العربية من عامل المفاجأة في تحقيق انتصارات عسكرية. ويضاف إلى هذه الثغرات العسكرية عامل ضعف أساسي يتمثل في تحكم بريطانيا في تسليح الجيوش العربية.

ورغم كل تلك الثغرات فإن الجيوش العربية حينما دخلت فلسطين في 15/5/1948 حققت انتصارات معتبرة، فالقوات المصرية حققت نجاحات ملموسة في القطاع الجنوبي، وتقدم الجيشان الأردني والعراقي قليلاً لكنهما عادا وتوقفا بعد فترة قصيرة من بدء العمليات ولم يتجاوزا المناطق التي حددت لهما، كما تمكن الجيش السوري وجيش الإنقاذ من السيطرة على معظم الجليل، ولم يكن الجيش اللبناني بعيدا عن عكا.


أرغمت بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية الدول العربية على وقف القتال لمدة أربعة أسابيع وضبط تدفق المتطوعين والسلاح

الهدنة الأولى
أحدثت تلك العمليات حرجاً للقوات الصهيونية سرعان ما أزيلت آثاره بقرار مجلس الأمن في 22/5/1948 بوقف إطلاق النار مدة 36 ساعة، ورفضت الدول العربية ذلك القرار في حينه، فمارست الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ضغوطاً مشددة مصحوبة بتهديدات للحكومات العربية. وتقدم الوفد البريطاني في مجلس الأمن بطلب جديد لوقف القتال مدة أربعة أسابيع، وضبط تدفق المتطوعين والسلاح إلى فلسطين إبان تلك الفترة. وفي 2/6/1948 أبلغت الدول العربية مجلس الأمن موافقتها على ذلك القرار، وتوقف القتال بالفعل في 11/6 وعرفت تلك الفترة بالهدنة الأولى.

أفادت القوات الصهيونية من تلك الهدنة إفادة كبيرة فعززت من قدراتها وزادت من تسلحها في شتى المجالات، ساعدتها في ذلك الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وحاولت تمديد الهدنة شهراً آخر لمزيد من الاستعداد، لكن محاولتها باءت بالفشل إثر حادثة اغتيال الكونت برنادوت الذي لم ترض الدول العربية ولا إسرائيل عن مقترحاته للتقسيم، فاندلعت الحرب من جديد في 7/7/1948 على الجبهة المصرية أولاً ثم امتدت إلى بقية الجبهات، واستولت القوات الصهيونية على اللد والرملة في 11 و12/7/1948 بعد هزيمة القوات الأردنية بقيادة القائد "البريطاني" غلوب باشا المتهم بالتقصير في تحصينهما، وأدى سقوطهما إلى كشف الجناح الأيمن للجيش المصري. وحصلت القوات الصهيونية بذلك على محور هام للاتصال بالقدس، وعلى قاعدة جوية هامة في اللد، كما ارتفعت الروح المعنوية لجنودها.

الهدنة الثانية 18/7/1948
تقدمت الولايات المتحدة بمشروع هدنة ثانية قبلته الدول العربية في 18/7/1948، غير أن القيادة الصهيونية خرقت شروط الهدنة في 27 - 28/7 وشنت هجوماً منظماً على كل من الفالوجا وعراق المنشية إلا أنهما باءا بالفشل، فوضعت القيادة الصهيونية خطة جديدة بهدف تحقيق اتصال آمن لها بالجنوب، ولتحقيق ذلك نظمت في أكتوبر/ تشرين الأول 1948 سلسلة من العمليات العسكرية ضد الجيش المصري أبرزها عمليات "الضربات العشر" و"عين" و"حيرام" في الجليل، ونجحت بالفعل في فرض حصار جديد على الفالوجا والتقدم ناحية خليج العقبة، وفرضت سيطرتها على الجليل الأعلى، وأجبرت جيش الإنقاذ على الخروج من فلسطين.

وإزاء هذا الموقف العسكري المتدهور أصدر القادة العسكريون العرب أوامرهم للجيوش بوقف إطلاق النار في 22/10/1948، ولم تلتزم القوات الصهيونية بهذا القرار فتابعت تنفيذ عملية حيرام، كما تابعت تنفيذ عملية أخرى حتى عام 1949 في قرية أم الرشراش المصرية على خليج العقبة والتي أصبحت فيما بعد تعرف باسم ميناء إيلات.

انتهت الحرب وبدأ صراع سياسي أسفر عن هدنة مؤقتة في رودس عام 1949.

تهجير الفلسطينيين عام 1948

وكانت النتيجة المروعة لنكبة 1948:
   - ضياع مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية تفوق ما نص عليه قرار التقسيم.
   - إقامة الدولة الإسرائيلية فوق أنقاض الدولة الفلسطينية.
   - تهجير آلاف الفلسطينيين إلى الدول المجاورة وظهور مأساة اللاجئين واستمرار معاناتهم حتى الآن.
   - تغيير خريطة الحكم في المنطقة العربية وقيام عدة ثورات عقب تلك الهزيمة المرة.

المقاومة بعد 1948
دخلت المقاومة الفلسطينية طوراً جديداً بعد حرب 1948، فقد أصبح لزاماً عليها مقاومة دولة ذات مؤسسات أمنية وعسكرية، بعد أن كانت تقاوم عصابات صهيونية مدعومة من قبل الاحتلال البريطاني.

ولم تكد تمر ثماني سنوات حتى شهدت المنطقة عدواناً ثلاثياً اشتركت فيه كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر رداً على تأميمها قناة السويس، وطال القصف الإسرائيلي منطقة غزة التي كانت خاضعة للإدارة المصرية آنذاك، بعدها طالبت مختلف القوى السياسية الفلسطينية بضرورة إعادة المقاومة المسلحة، فأعلن عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" التي أعلنت عن أولى عملياتها عام 1965، لكن سرعان ما دخلت المنطقة في حرب أخرى جديدة لم تقل خسائر العرب فيها عن حرب 1948، فقد أخضعت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية لسيادتها، واحتلت أجزاء من كل من سوريا والأردن ومصر، وزادت إسرائيل من مساحتها نتيجة تلك الحرب الخاطفة بنسبة 200%.

عادت الجماهير العربية تطالب بمحو آثار الهزيمة، ووجدت المقاومة الفلسطينية المناخ العربي العام مهيأ لمساعدتها، فتحسنت علاقة الأردن بمنظمة التحرير وانطلقت من الأراضي الأردنية بعض العمليات العسكرية ضد إسرائيل، وقد خشيت المملكة الأردنية الهاشمية من ردود الأفعال الإسرائيلية إزاء هذا الوضع، فتهيأ المناخ لعمل ما يكون ذريعة لخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن، فكانت أحداث سبتمبر/ أيلول الأسود عام 1970 التي استدرج فيها بعض المتحمسين الفلسطينيين فاشتبكوا مع بعض الضباط الأردنيين، واشتعل الموقف بدلاً من تدخل العقلاء للتهدئة، واستعمل الجيش الأردني آليته العسكرية الثقيلة، فراح ضحية تلك الأحداث الدامية آلاف القتلى والجرحى من كلا الجانبين، وبالطبع كانت الخسارة الأكبر في الجانب الفلسطيني.

وأسفرت أحداث أيلول الأسود عن خروج فصائل المقاومة الفلسطينية عام 1971 من الأردن على مرحلتين لتكون محطتها التالية في بيروت. وبعد عدة عمليات ناجحة شنتها المقاومة على إسرائيل من الأراضي اللبنانية كان الرد الإسرائيلي عنيفاً، فقد اجتاح جيش الدفاع الإسرائيلي بيروت واشتبك مع المقاومة ودارت بينهما حرب شوارع، وفرض الجيش حصارا خانقا على تلك الفصائل اضطرت في نهايته إلى القبول بالشروط الإسرائيلية بعد وساطات عربية ودولية. وكانت تلك الشروط قاسية ومؤثرة على نهج المقاومة لأنها أبعدت المقاومة من الخطوط الأمامية، فحلت الفصائل وانتقلت المنظمة إلى تونس لتمارس من هناك عملاً آخر ساحته موائد المفاوضات بدلا من خنادق الحروب.

انتفاضة 1987
زادت قناعة رجل الشارع الفلسطيني باستحالة التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية دون تحرك شعبي داخلي، خاصة في ظل أجواء من انحسار الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية واكتفاء معظم الدول العربية بتسجيل مواقف خطابية إعلامية دون أن يتعدى ذلك إلى تحرك عملي تشعر معه إسرائيل بالضغط عليها، هذا إضافة إلى شعور منظمة التحرير الفلسطينية بالعزلة الدولية منذ أن غادرت بيروت عام 1982 متوجهة إلى تونس.. كل ذلك مع ازدياد الأعمال الإجرامية للقوات الإسرائيلية من قصف للقرى والمخيمات في الجنوب اللبناني وهدم المنازل والاعتقالات العشوائية والعقاب الجماعي لأهالي الضفة الغربية وقطاع غزة، أدى إلى أن يجد الغضب الجماهيري متنفساً له في صورة انتفاضة شعبية عمت كل المدن الفلسطينية.

استمرت الانتفاضة حوالي ثلاث سنوات، ظهرت خلالها بطولات فردية، لكن في المقابل كانت القوات الإسرائيلية ترد بعنف، وابتكرت سياسة تهشيم العظام لتسبب إعاقة دائمة للشباب الفلسطينيين المشاركين في الانتفاضة. وتحمست الشعوب العربية لما يحدث في الأراضي المحتلة، وتحسن الموقف السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن.. كانت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد والتي تعدى تأثيرها السلبي القضية الفلسطينية ليمتد إلى النظام العربي بأكمله، وهي غزو العراق للكويت وما أعقبه من حشد الولايات المتحدة الأميركية الرأي العام الدولي ضد العراق، وقيام قوات التحالف الدولي بشن غارات قاسية على الجيش العراقي والمدن العراقية أجبرت في نهايتها العراق على الانسحاب من الكويت.

أما تأثير ذلك على الانتفاضة فيظهر في سحب حرب الخليج الثانية البساط من تحت أقدامها، وتغييرها لأولويات الاهتمام العربي والدولي، فلم تعد القضية الفلسطينية تأخذ من الاهتمام ما كانت تحصل عليه قبل الغزو العراقي.

أما التأثير الثاني فكان نابعاً من الموقف السياسي الذي اتخذته بعض الدول الخليجية بالاستغناء عن معظم العاملين الفلسطينيين، رداً على الموقف السياسي الذي اتخذته منظمة التحرير والذي فسرته الدول الخليجية بأنه مؤيد للعراق، وقد حرم ذلك الإبعاد الفلسطينيين في الداخل من رافد اقتصادي هام.

توقف الانتفاضة
بعد انتهاء حرب الخليج دخلت المنطقة العربية في طور جديد رسمته الولايات المتحدة الأميركية فيما أطلق عليه بالنظام العالمي الجديد، فعقد مؤتمر مدريد للسلام، شاركت بعده منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات سرية مع إسرائيل تمخضت عن التوصل إلى اتفاق أوسلو 1994 وبروز السلطة الوطنية الفلسطينية على مسرح الأحداث.

انتفاضة الأقصى 2000
في سبتمبر/ أيلول 2000 وبعد فشل مفاوضات كامب ديفد الثانية اندلعت انتفاضة الأقصى التي أشعل شرارتها الأولى زيارة زعيم حزب الليكود المتشدد أرييل شارون للمسجد الأقصى، في ظل تزايد دعوات بهدمه وإقامة ما يسمى بهيكل سليمان مكانه.

واستعملت القوات الإسرائيلية مختلف أنواع الأسلحة في إخمادها، فقصفت غزة ورام الله بالطائرات ودمرت بعض مقرات حركة فتح، وطال القصف مكاتب تابعة للرئيس ياسر عرفات نفسه، وسقط من الفلسطينيين مئات الشهداء وآلاف الجرحى.

ولا تزال الانتفاضة مشتعلة، وإن كانت هناك تحركات سياسية تسعى للتوصل إلى حل يوقف حمامات الدم، وربما يحقق بنوداً سرية تم الاتفاق عليها من قبل.

وبتأمل هذا العرض الطويل نستطيع القول إن المقاومة الفلسطينية التي تشهدها أرض فلسطين حالياً جزء من هذه السلسلة الطويلة في هذا التاريخ الممتد، وجزء من سلسلة مقاومة فلسطينية خاصة بهذا الشعب الذي ابتلي بالاحتلال الإسرائيلي لأراضيه قبل أكثر من 50 عاماً. كما نستطيع استخلاص بعض العوامل التي أدت إلى اندلاع الانتفاضات والثورات الشعبية الفلسطينية، والأسباب التي أدت إلى فشلها في تحقيق الأهداف الوطنية التي قامت من أجلها.

ملاحظات على مسيرة المقاومة
تعددت أشكال المقاومة الفلسطينية بتغير الظروف السياسية والعسكرية، فبعضها اكتسب صفة مسلحة سواء على المستوى الشعبي متمثلاً في صورة انتفاضات تندلع شرارتها في مدينة ثم سرعان ما يمتد لهيب الغضب إلى معظم الأراضي الفلسطينية، أو على مستوى العمل العسكري "المنظم" كالذي قامت به الجيوش العربية عام 1948 وأسفر في نهايته عما اصطلح على تسميته بالنكبة الكبرى، وما نجم عنها من ضياع للأرض وتشرد للشعب.

واتخذ بعضها شكل المقاومة السياسية إما عن طريق عقد المؤتمرات الجماهيرية أو تكوين الأحزاب السياسية وإنشاء الجمعيات أو البعثات الدبلوماسية والظهور في المحافل الدولية للمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني، وبالأخص حقه في تقرير مصيره وعودة لاجئيه إلى ديارهم.

كما اتخذ بعضها الآخر أشكالاً اقتصاديةً، كإنشاء بنوك وطنية كالبنك العربي
(1934) وشركة التجارة الوطنية، والدعوة إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية والأميركية سواء في داخل الأراضي المحتلة أو في العالم الإسلامي.

ويمكننا القول إن أسباب فشل المقاومة الشعبية الفلسطينية بعد هذا العرض التاريخي الطويل تعود إلى العوامل التالية:

أولاً: غياب الاستراتيجية
الملاحظ على مسيرة المقاومة الفلسطينية عبر هذه السنين الطويلة أنها تندلع كردود أفعال وليست كاستراتيجية منظمة طويلة الأمد، فتختلف قوة المقاومة -سواء أكانت سياسية أو هبات شعبية- بحسب قوة المثير. يلاحظ ذلك على أول تحرك شعبي فلسطيني عام 1898 حينما قام أهالي منطقة جرش بالهجوم على مستوطنة صهيونية أقيمت في منطقتهم، مروراً بالانتفاضات الشعبية التي شهدتها المدن الفلسطينية في العشرينات والثلاثينات احتجاجاً على أفواج الهجرة اليهودية التي تواصلت دون انقطاع تحت سمع وبصر بل وبمساعدة حكومة الانتداب البريطانية، ووصولاً إلى انتفاضة الأقصى عام 2000 التي أشعل فتيلها زيارة الزعيم الصهيوني المتطرف أرييل شارون للمسجد الأقصى، في ظل دعوات متزايدة بهدمه وإقامة ما يسمى بهيكل سليمان على أنقاضه.

وقد نجم عن هذه الحالة عدم استثمار للغضب الجماهيري فيما يعود بالنفع على القضية الفلسطينية، فبعد أيام أو أسابيع تطول أو تقصر من الهبة الشعبية يسقط خلالها عدد من الشهداء، تتوسط قيادات محلية أو عربية لإعادة الهدوء إلى الساحة الفلسطينية، ويستجيب الشعب الذي يريد عودة الأمور إلى طبيعتها بعد توقف مرافق الحياة الأساسية الخدمية والإنتاجية، وهذا ما ظهر بجلاء في الانتفاضات الشعبية التي قام بها الفلسطينيون في أعوام 1920، 1921، 1923، 1924، 1929 كما سيتضح من العرض بعد قليل.

ثانياً: ضعف القيادة
باستثناء بعض القيادات القليلة التي تعد على أصابع اليد الواحدة، افتقدت المقاومة الفلسطينية في صراعها مع الكيان الصهيوني القيادات التاريخية المؤهلة للأخذ بزمام مقاومة طويلة النفس سواء في الداخل أو في الخارج. وتميز فكر قادة الحركة الوطنية بالضبابية والافتقاد إلى الرؤية الواضحة، فبينما هم يسعون للحصول على حلول سياسية، لا يعملون بالقدر نفسه على تحقيق عناصر قوة تساعدهم في بلوغ أهدافهم السياسية مما جعل تلك الأهداف تتحول إلى أحلام وأمانٍ.

ثالثاً: فقدان الإرادة السياسية العربية
رغم الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الذي تلقته القضية الفلسطينية فإن ثماره لم تظهر، وكانت لهزيمة الجيوش العربية عام 1948 على سبيل المثال أكبر الأثر في ضياع كل الأراضي الفلسطينية آنذاك باستثناء الضفة والقطاع. ويقاس على المثال العسكري هذا أمثلة أخرى اقتصادية (الدعم المالي لمنظمة التحرير الفلسطينية) وسياسية (مطالبة المجتمع الدولي بتطبيق قراري الأمم المتحدة 242 و338 بشأن القضية الفلسطينية). إلا أن هذا الدعم غير كاف من جهة، ويفتقد إلى الإرادة السياسية الصادقة لجني ثماره من جهة أخرى، ويُستدل على ذلك من عدم استجابة الأنظمة العربية لمطالب شعوبها بقطع علاقاتها العلنية والسرية مع إسرائيل، أو التلويح باستخدام سلاح النفط أو مقاطعة السلع الأميركية -بما فيها صفقات الأسلحة- للحصول على مكاسب سياسية للقضية الفلسطينية، وساعد على ذلك أيضاً ضعف بنية النظام العربي ذاته نتيجة عوامل داخلية متراكمة منذ الخمسينات، والشرخ الذي لم يندمل بعد إثر غزو العراق الكويت (1990-1991).

تغير الظروف الدولية
أثر انهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة ما سمي بالنظام الدولي الأحادي القطبية على القضية الفلسطينية، وظهر ذلك جلياً من التحيز الأميركي لصالح إسرائيل، واستعمالها الدائم لحق النقض (الفيتو) في أي قرار يصدر من مجلس الأمن فيه إدانة لإسرائيل، هذا إضافة إلى الدعم المالي والسياسي والعسكري الذي يهدف إلى تفوق إسرائيل على نظيراتها من الدول العربية، وهو ما يعتبر من ثوابت السياسة الخارجية الأميركية.

المسيرة السلمية
ظهرت بوادر المسيرة السلمية في عقد السبعينات واكتسبت صبغة رسمية من خلال مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ثم توجتها اتفاقية أوسلو وما نجم عنها من تشكيل سلطة وطنية وحكم ذاتي محدود في الضفة والقطاع، بناء على شروط للتعاون الأمني جعلت من السلطة حائط عزل بين الشعب الفلسطيني واليهود، مما أثر على المقاومة بشكل كبير.

خيار المقاومة
ورغم هذه الثقوب السوداء في ثوب المقاومة الفلسطينية الأبيض، فإن خيار المقاومة سيظل هو السنة الكونية التي تحقق منها الإنسان عبر مئات القرون لنيل حريته واستقلاله.